عبد الله الصيخان وهواجس في حب الوطن

عبد الله الصيخان وهواجس في حب الوطن

قد جئت معتذرا ما في فمي خبرُ

رجلاي أتعبها الترحال والسفرُ

إن جئت يا وطني هل فيك متسعٌ

كي نستريحَ ويهمي فوقنا مطرُ

 

مكعب سداسي الأوجه

لا ينفك الفتى الكبير من ذكر معلمه بشيءٍ من الحبّ والعرفان والأبوة، وهو الذي أمسك بيده في خطوته الأولى.

 يكاد ألا يخلو أي لقاء؛ قصيراً كان أو طويلًا، مرئيًا أو عبر أروقة الحرف، إلا ذكر فيه معلمه في الثانوية د. محمد الشنطي.

في حائل وُلد.. حائل التي تستقر شمال القصيم موطن الشاعر؛ لم تكن حائلا دون تنقل ابن الصحراء المستمر والمتواصل.. فقد عاش فترة من حياته فيها، وحين تاقت نفسه إلى الشمال عاد إلى تبوك تحديدا، وفي سنوات متقاربة، كانت أشبه بحياة البدوي القائمة على الترحال، استقر هناك، وبدأت بواكير تجربته؛ القصيم التي لم يعش بها، وحائل التي وُلد بها، ثم تبوك التي شب على ترابها، ذلك يشبه مهرجانا وطنيا عاشه شاعرنا الذي انطلقت شاعريته من هناك، يقضم تفاحة، ويقرأ جريدة.

 في تبوك التي كانت قنطرة بين ثقافات مختلفة رسمتها جغرافية المكان، ولّدت لديه انفجارًا ثقافيًا مختلفًا ومتماثلاً في آن.. إيقاع رشيق سلس وعذب، مع ثقيل وصلب وقوي، موسيقى عذبة وكلمات متفجرة، يطمئنها بفعل خفيف، صلابة صحراء وحفيف شجر.

 

حياة لا تهدأ

في أقصى الشمال وعلى الحدود المتاخمة للأردن ولقربها من العديد من الدول العربية  تفتحت عيناه اللتان كانتا تتلقفان كل إنتاج صحفي وأدبي من هذه الدول التي سبقت المشهد الثقافي لدينا.. كان وصولها ليدي عبد الله أسهل من وصول الصحف الصادرة من مكة والرياض، لظرف تبوك المكاني ولظروف رحلات الطيران القليلة آنذاك.. لم يكن هذا الأمر سوى ضربة حظ لعبد الله، ومزودة حرفٍ كانت ترضي نهمه وشغفه.. وقد ساعده هذا على الاطلاع مبكرا على الإنتاجات المتدفقة من منطقة الشام، التي بدأ يتشرب تجاربها، وساعدته على إثراء حصيلته الثقافية واللغوية والشعرية، وقبل ذلك مخيلة الشاعر.

 

صندوق تفاح وقصيدة

 بتشجيعٍ من معلمه رسم حروف أولى قصائده، نثر قصيدته أولًا، ثم بدأ يعلق قصائده كسلال ضوء تنوء بولادة تجربة جديدة، وتأذن بانفتاح حقبة حديثة في المشهد الثقافي، والذي بدأ في التشكل لاحقًا.

 وعن الصحف التي كانت تصل مع شحنات الفاكهة القادمة إلى تبوك عبر حدودها مع تلك الدول؛ يقول:

"نهلت منها وكانت زادي الوحيد. في وقت لم تكن الصحف والمجلات السعودية تصل إلى تبوك. وأنا هنا أتحدث عن مرحلة الثمانينات الهجرية. فأعتقد أنني أدين بتكويني الشعري لتلك الجهات، وهذا نمى روحي العربية، فأنا لست سعودياً فقط، فأنا عربي يفخر بسعوديته".

 

سوريالية الحرف والرمز لدى الصيخان

كان متعصبًا لا لشكل القصيدة ولا لشاعريتها وجرسها الموسيقي، بل كان متعصبًا للحرية الثقافية في مفهومها المطلق؛ الذي يحرر المشهد الثقافي مما يعيقه ويشده إلى الوراء.. وكان، بالإضافة إلى ذلك؛ مؤمنًا بأن الاختلاف والتجديد لا يتعارضان مع الأصالة، وأن كل فن يظهر يحتاج لفترة من الوقت كي يثبت نفسه، كموجة الحداثة في الشعر مثلا. 

كانت كجذوة كلمة قاومت ضبابية المشهد، مطر الكلمات يأتيه من جغرافية البيئة التي ترفدها الحالة الثقافية المجاورة والمختلفة، والحراك أو العراك الذي حدث بين التجديد والتقليد بين الانفتاح وبين التقييد، بين خيال الكلمة وحقيقة المعنى، كان يحمل الثراء لجيل شعري قادم، لا ينتمي إلى أي تيار سوى الشعر والشعر وحده.

"أنا أكتب شيئا مني به رائحتي. فيه عباءة جدتي وعمامة جدي، فيه مشلح أبي وقميص جاري، ولا أستطيع أن أخرج من جلدي الثقافي".

كانت دورات مهرجان "المربد" انطلاقة للشعر المحلي إلى العالم العربي، وانفتاح القصيدة السعودية على الشقيق العربي وتجاربه المتنوعة، ثم لوجهات أخرى كمهرجان "جرش" في الشرق الأوسط، و"قرطاج" في المغرب العربي، وكان الصيخان أحد أعمدتها حاضرا متألقًا فيها.

 

سلاحي الشعر

في مشهدٍ ثقافي بسيط ، يتمسك بروح الشعر القديمة، ومستمسكًا بآراء وتأويلات مختلفة، كانت هناك ساحة اختلاف مع الحداثة في الشعر؛ الحداثة التي دافع عنها الصيخان ومجايليه، لتأتي القصائد أكلها وتكون قنطرة لوصل الحداثة بالتراث، وبجذور التأويل لا الأراء.

كان الصيخان فيها يملك نفسًا طويلًا وشغفًا كبيرًا للدفاع عن كينونة شعره.

 

شعر يستند على جهات الوطن

كان الوطن حاضرًا في شعر الصيخان مستبدًا به، وكانت حواسه وطنا، وكلماته وجد وحب وعشق له، وكان الحبّ رمزًا كالصحراء وطنًا وعروبة في قصيدته "هواجس"، أو منتفضاً كأيدي المقاومين الفلسطينيين في قصيدته "الحجر" التي كتبها ونشرها عام 82 بينما لم تبدأ ثورة الحجارة إلا بعد ذلك بخمس سنين، أو رقيقاً وناقداً في أناة كما هو في قصيدته "طيبة" التي كتبها في حب المدينة، وحمل فيها على تمثلات التغير في مجتمعنا، مستعيدًا سماحة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو نبيلاً كقصائد الوفاء في مرثياته لرموز كالشيخ عبد العزيز بن باز، أو لشعراء وفنانين كالثبيتي وطلال مداح، ليقترب رثاؤه من حواف الغزل، كما جسده في قصيدته، أما في قصيدته "أسطورة" وهي من بواكير شعره؛ فتبدو ليلى رمزًا ناقدًا لمجتمعٍ يرى أن المرأة متعةٌ لا ند، متاعٌ لا ركيزة، والرمز في شعر الصيخان يحمل معنى قد تجده في شطر، أو قد يتجسد أمامك بعد قراءة قصيدة وتفرسها، لربما كان الشاعر يهرب من المباشرة في شعره، ليتحاشى أسنة النقاد، التي تغربل كل جديد وترفضه وتدينه.

 تبقى قصيدة الصيخان تحمل فكرًا أكبر وأعمق وأطول من وقتها الآني، فيها استشراف للمستقبل؛ توقعٌ يستشرف، وقراءة متأنية، ومساحات شاسعة للتأويل.

 

عودة الابن إلى حضنه القديم

عاد عبد الله إلى مجلة اليمامة التي احتضنت قصيدته الأولى، وتلقفت شعره، وبعد أن عمل بها لسنوات محررا ثقافيا وسكرتيرا ثم مديرا للتحرير، قبل أن يغادرها لسنوات، ليعود إليها  مشرفا على تحريرها، ويعيد الألق إليها، مختتمًا ترحاله بين الصحف، مستقرًا بها ولها، حبًا وشغفًا تارة، وامتنانًا وعرفانًا تارة أُخرى.